فصل: تفسير الآيات (26- 29):

مساءً 4 :53
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (26- 29):

{وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}
{وَآتِ ذَا القربى} منك {حَقَّهُ} أي النفقة إذا كانوا محارم فقراء {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي وآت هؤلاء حقهم من الزكاة {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} ولا تسرف إسرافاً. قيل: التبذير تفريق المال في غير الحل والمحل، فعن مجاهد: لو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً. وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه: لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوآ إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ} أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان، أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} فما ينبغي أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ} إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم رداً جميلاً، فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه، فوضع المسبب موضع السبب، يقال: يسر الأمر وعسر مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول. وقيل: معناه: فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم كأن معناه قولاً ذا ميسور وهو اليسر أي دعاء فيه يسر. و{ابتغاء} مفعول له أو مصدر في موضع الحال و{ترجوها} حال {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنْقِكَ وَلا تُبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} {كل} نصب على المصدر لإضافته إليه. وهذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف أمر باقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} فتصير ملوماً عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده وعند الناس يقول الفقير: أعطى فلاناً وحرمني، ويقول الغني: ما يحسن تدبير أمر المعيشة، وعند نفسك إذا احتجت فندمت على ما فعلت {مَّحْسُوراً} منقطعاً بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا أثر فيه أثراً بليغاً أو عارياً من حسر رأسه. وقد خاطرت مسلمة ضرتها اليهودية في أنه يعني محمداً عليه السلام أجود من موسى عليه السلام فبعثت ابنتها تسأله قميصه الذي عليه فدفعه وقعد عرياناً فأقيمت الصلاة فلم يخرج للصلاة فنزلت. ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأَن ذلك ليس لهوان منك عليه ولا لبخل به عليك، ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوض إلى الله تعالى فقال:

.تفسير الآيات (30- 33):

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)}
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءَ} فليس البسط إليك {وَيَقْدِرُ} أي هو يضيق فلا لوم عليك {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً} بمصالحهم فيمضيها {بَصِيراً} بحوائجهم فيقضيها.
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} قتلهم أولادهم وأدهم بناتهم {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فقر {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} نهاهم عن ذلك وضمن أرزاقهم {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} إثماً عظيماً. يقال: خطئ خطأ كأثم إثماً. {خطأ} شامي وهو ضد الصواب اسم من أخطأ. وقيل: والخطء كالحذر والحذر {خطاء} بالمد والكسر: مكي {وَلا تَقْرَبُوا الزنى} القصر فيه أكثر والمد لغة وقد قرئ به وهو نهي عن دواعي الزنا كالمس والقبلة ونحوهما، ولو أريد النهي عن نفس الزنا لقال (ولا تزنوا) {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} معصية مجاوزة حد الشرع والعقل {وَسَآءَ سَبِيلاً} وبئس طريقاً طريقه {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي بارتكاب ما يبيح الدم {وَمَن قُتِلَ مَظْلوماً} غير مرتكب ما يبيح الدم {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه {فَلا يسْرِف فِّي الْقَتْلِ} الضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة أهل الجاهلية، أو الإسراف المثلة، أو الضمير للقاتل الأول {فلا تسرف} حمزة وعلي على خطاب الولي أو قاتل المظلوم {إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} الضمير للولي أي حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، أو للمظلوم أي الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وينصره في الآخرة بالثواب، أو للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه كان منصوراً بإيجاب القصاص على المسرف. وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد وبين المسلم والذمي لأن أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في الآية لكونها محرمة.

.تفسير الآيات (34- 39):

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالخصلة والطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي ثماني عشرة سنة {وَأَوْفُوا بِالْعَهْد} بأوامر الله تعالى ونواهيه {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، أو أن صاحب العهد كان مسؤولاً {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ} بكسر القاف: حمزة وعلي وحفص وهو كل ميزان صغير أو كبير من موازين الدراهم وغيرها. وقيل هو القرسطون أي القبان {الْمُسْتَقِيمِ} المعتدل {ذَلِكَ خَيْرٌ} في الدنيا {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبة وهو تفعيل من آل إذا رجع وهو ما يؤول إليه.
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولا تتبع ما لم تعلم أي لا تقل رأيت وما رأيت وسمعت وما سمعت. وعن ابن الحنفية: لا تشهد بالزور. وعن ابن عباس. لا ترم أحداً بما لا تعلم. ولا يصح التثبت به لمبطل الاجتهاد لأن ذلك نوع من العلم فإن علمتموهن مؤمنات، وأقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به كما في الشهادات ولنا في العمل بخبر الواحد لما ذكرنا {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} {أولئك} إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد لأن {أولئك} كما يكون إشارة إلى العقلاء يكون إشارة إلى غيرهم كقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

و{عنه} في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولاً عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]
يقال للإنسان. لم سمعت ما لم يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ كذا في الكشاف، وفيه نظر لبعضهم لأن الجار والمجرور إنما يقومان مقام الفاعل إذا تأخرا عن الفعل، فأما إذا تقدما فلا {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} هو حال أي ذا مرح {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئتك {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} بتطاولك وهو تهكم بالمختال أو لن تحاذيها قوة وهو حال من الفاعل أو المفعول {كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ} كوفي وشامي على إضافة سيء إلى ضمير {كل}. {سيئة} غيرهم {عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} ذكر {مكروهاً} لأن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ألا تراك تقول: (الزنا سيئة)، كما تقول: (السرقة سيئة)، فإن قلت: الخصال المذكورة بعضها سييء وبعضها حسن ولذلك قرأ من قرأ {سيئة} بالإضافة أي ما كان من المذكور سيئاً كان عند الله مكروهاً فما وجه قراءة من قرأ {سيئة} قلت: كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} إلى هذه الغاية {مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فتلقى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} مطروداً من الرحمة. عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: {لا تجعل مع الله إلها آخر} وآخرها {مدحوراً} ولقد جعلت فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمة وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم. ثم خاطب الذين قالوا الملائكة بنات الله بقوله:

.تفسير الآيات (40- 42):

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)}
{أَفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين} الهمزة للإنكار يعني أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون {واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا} واتخذ أدونهم وهي البنات وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم، فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها ويكون أردؤها وأدونها للسادات {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} حيث أضفتم إليه الأولاد وهي من خواص الأجسام، ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرءان} أي التنزيل والمراد ولقد صرفناه أي هذا المعنى في مواضع من التنزيل فترك الضمير لأنه معلوم {لّيَذْكُرُواْ} وبالتخفيف: حمزة وعلي، أي كررناه ليتعظوا {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} عن الحق. وكان الثوري إذ قرأها يقول: زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ} مع الله {أألِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} وبالياء مكي وحفص. {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً} يعني لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو لتقربوا إليه كقوله: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} {وإذاً} دالة على أن ما بعدها وهو {لابتغوا} جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل (لو)

.تفسير الآيات (43- 46):

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)}
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ} وبالتاء: حمزة وعلي {عَلَوْاْ} أي تعاليا والمراد البراءة من ذلك والنزاهة {كَبِيراً} وصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.
{تُسَبّحُ} وبالتاء: عراقي غير أبي بكر {لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} أي يقول سبحان الله وبحمده. عن السدي قال عليه السلام: «ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير لا بما يضيع من تسبيح الله تعالى» {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} لاختلاف اللغات أو لتعسر الإدراك أو سبب لتسبيح الناظر إليه، والدال على الخير كفاعله. والوجه الأول {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} عن جهل العباد {غَفُوراً} لذنوب المؤمنين.
{وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا} ذا ستر أو حجاباً لا يرى فهو مستور {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} جمع كنان وهو الذي يستر الشيء {أَن يَفْقَهُوهُ} كراهة أن يفقهوه {وفي ءاذانهم وقراً} ثقلاً يمنع عن الاستماع {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} يقال: وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحداً {وَلَّوْاْ على أدبارهم} رجعوا على أعقابهم {نُفُورًا} مصدر بمعنى التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود أي يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا.

.تفسير الآيات (47- 51):

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي نحن أعلم بالحال أو الطريقة التي يستمعون القرآن بها، فالقرآن هو المستمع وهو محذوف و{به} حال وبيان ل {ما} أي يستمعون القرآن هازئين لا جادين والواجب عليهم أن يستمعوه جادين {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} نصب ب {أعلم} أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون {وَإِذْ هُمْ نجوى} وبما يتناجون به إذ هم ذوو نجوى {إِذْ يَقُولُ الظالمون} بدل من {إذ هم} {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} سحر فجن {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون، {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أي فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع.
{وَقَالُواْ} أي منكرو البعث {أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي مجدداً و{خلقاً} حال أي مخلوقين {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ} أي السماوات والأرض فإنها تكبر عندكم عن قبول الحياة {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ} يعيدكم {الذى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة بعدما كنتم عظاماً يابسة مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى الحالة الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة وهو أن تكونوا حجارة أو حديداً لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاءً {وَيَقُولُونَ متى هُوَ} أي البعث استبعاداً له ونفياً {قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} أي هو قريب و{عسى} للوجوب.

.تفسير الآيات (52- 55):

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)}
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} إلى المحاسبة وهو يوم القيامة {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي تجيبون حامدين والباء للحال. عن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهم وبحمدك {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لبثاً قليلاً أو زماناً قليلاً في الدنيا أو في القبر.
{وَقُل لّعِبَادِى} وقل للمؤمنين {يَقُولُواْ} للمشركين الكلمة {التى هي أَحْسَنُ} وألين ولا يخاشنوهم وهي أن يقولوا يهديكم الله {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليوقع بينهم المشاقة. والنزغ: إيقاع الشر وإفساد ذات البين. وقرأ طلحة: {ينزغ} بالكسر وهما لغتان {إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا} ظاهر العداوة أو فسر {التي هي أحسن} بقوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بالهداية والتوفيق {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ} بالخذلان أي يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. قوله: {إن الشيطان ينزع بينهم}. اعتراض {وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً لأعمالهم وموكولاً إليك أمرهم وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ في السماوات والأرض} وبأحوالهم وبكل ما يستأهل كل واحد منهم.
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} فيه إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: {وءاتينا داوُود زَبوراً} دلالة على وجه تفضيله وأنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في زبور داود قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وهم محمد وأمته. ولم يعرف الزبور هنا وعرفه في قوله: {ولقد كتبنا في الزبور} لأنه كالعباس وعباس والفضل وفضل.